Uncategorized

“أنظروا إلى عريي ودعكم من عينيّ” داخل الصالة المغلقة.. الطلاب في مواجهة جسدها

في يوم رحيل الممثلة الكبيرة رينيه ديك، أعيد نشر هذه المقابلات حول “العارضة العارية” في صفوف الرسم الجامعية وكيفية تفاعل الطلاب الوافدين حديثاً إلى سن الرشد مع جسم امرأة عارٍ أمامهم. سنة 2000، كانت رينيه آخر العارضات المحترفات في لبنان (ولا أتهور كثيراً لو عمّمت وقلت: في معظم بلاد هذه المنطقة)، فقصدتها بالأسئلة وعدت بأحلى الأفكار وبعميق التقدير. نشر النصّ للمرة الأولى في يوم النساء العالمي لسنة 2000: يومها، أدارت النساء جريدة “السفير” ليوم واحد، ترأست تحريره هنادي سلمان، وأتيته أنا بهذا الموضوع لقسم الثقافة، بالإضافة إلى مهامي في المطبخ التحريري لعددٍ يستأهل أن يُحفظ للتاريخ. أتمنى أن يلفت هذا النص النظر إلى استثنائية دور أدّته رينيه على كرسيّ مرتفع خارج الخشبة، عند المفاصل التي تصنع الفنانين/ات، وفي صلب المعركة النسوية والثقافية في هذا البلد.

المصدر: السفير (1352 كلمة)        

تاريخ ميلادي: 08/03/2000          

الصفحة:  18      

كاتب: مندور سحر

دخلوا الجامعة من بابها الفني، اختاروا مجال الفنون الجميلة، وفجأة، من دون تحضير نفسي او اجتماعي، وجدوا أنفسهم داخل صالة مغلقة، مع الأستاذ او الأستاذة، في مواجهة جسد عار الا من السروال الداخلي، جسد امرأة عار داخل حدود الجامعة.

القالب الاجتماعي مفصل وجاهز: انه العلم، العلم الذي يخدر نزعات الحلال والحرام، ويشذب النظرات وأهدافها المتحركة.

تتعرى الفتاة لتكون الدراسة اكثر دقة وغير مرتبطة بتهيؤات حول مقاييس الجسد الذي سيطول التعامل معه.. فنياً.

// أعرض جسدي لأني لا أخافه //

تكثر الأحاديث في الجامعة حول “الصف اللي فيه ناس بالظلط”، ولـ”الظلط” تاريخ تحريمي واسع يضع المتعري في خانة تحلو مهاجمتها، خانة من احترم الجسد فجاز التقليل من احترامه. وإحدى أشهر العارضات وأقدمهن هي الممثلة المسرحية القديرة، رينيه ديك:

“العري بحد ذاته هو جمالية الجسم الانساني، ومن الضروري الانتباه الى ان الفنان لا يفكر مثل الانسان العادي، المرأة العادية تجسد الجنس والأطفال والإغراء من خلال عريها، اما الفنان فيتحول جسمه الى تعبير عن كلمة، لم يعد أداة جنس فحسب. أثناء عملي في المسرح بنيت ترابطا مع جسدي، تحول أداة للتعبير، حمل معاني كبيرة عندي، لم أعد أخاف منه، ارتحت اليه وأحببته. اشتغلت كنموذج للرسم (موديل)، وما ان أعطي جسمي لرسام حتى أبني تفاعلا بيني وبينه.. اللوحة التي تخرج من بين أيدي الطلاب، جميلة كانت أم قبيحة، تشبهني أولا، تصبح في اللاوعي “تبعي”، أنا.. هي أنا مهما حاول الجميع ان يقولوا لي: “شو خصك أنت”.. الفن أعلى وأسمى من كل التفكير اليومي التقليدي الساذج المنحط.. حتى الأديان، بدل ان تقدس الجسد دنسته: قبل الدين كان الناس يصلون وهم عراة، كانوا يقدسون الجسد.. جاءت الاديان فألبست الجسد رداء الجنس، وحولت الجنس عارا، مع إنو غريزة حطها الله بالانسان ليحس بروعتها”.

// “قرفت” لأنها مرتاحة //

وصلت رينيه ديك في تحليلها الى مرحلة يحلو التماهي معها كونها تمنح الانسان حرية مشروعة: حرية حب جسده.. وهو حديث ينطلق أساسا من الانسان. الا ان الانسان المتابع لصف تتعرى فيه سيدة، قد لا يرى في الجسد اكثر مما طال تصويره، قد يكون لم ير الجسد بعد الا في سرير معتم.. تقول ليان، احدى الطالبات المقرر عليهن صف “الظلط”: “رسم العري مفيد جدا، منتعلم القياسات الحقيقية بس أنا ما بفهم، بسوتيان او بلا سوتيان القياسات واضحة.. قبل ما آخد الصف، كنت وزملائي “نتنقوز” عليهم.. أول مرة دخلت الصف بصفة تلميذة صدمت، شعرت بمياه باردة تلقى علي، مش معودة. زعجني أسلوبها كثيرا وقرفني: كانت هادئة جدا وتخلع ملابسها قطعة قطعة أمامنا.. ما كأنه في حدن قاعد، وتهتم بشكلها وكيفية ظهور جسدها وصدرها.. قال لي زملائي انها تتعرى لأجل المصاري.. ولكنها تبدو سعيدة بما تقوم به.. “هيك بدها”.. يا ريت بتشلح على جنب! بعد الصفين الأولين تحول الموقف عاديا وأصبحنا نرى في “المتنقوزين” علينا مدعاة للقول: “ليك وين بعدهن”.. نحن مثقفو البلد كوننا دخلنا الجامعة، يجب ان نعتاد على “هيك” أشياء.. على الأرجح لسنا معتادين على هكذا عروض ف”منحسها هجنة”، ولكن في الخارج الوضع مختلف.. طبيعي”.

في المقابل، لا تستهجن ليان العارض الشاب الذي زار الصف لمرات عديدة، تقول انها متعودة على رؤية شبان بالمايوه على البحر.. ولم يزعجها حضوره قط.

// كنت أتوقع أكثر //

من بين طلاب الفنون، فئة تعتني بالرسم في المرحلة الاولى وترى في الجسد دائما مشروع لوحة، ترى في تدويره ما يستوجب الدراسة والتعب. يقول علي: “دخلت الصف وأنا أتوقع أكثر.. لم أكن متفاجئا، كان شعوري عاديا وكأنني أرسم كوباً”. فايت على الفنون وبدي إتعلم كل شي. وباستطاعتي ان أكون موضوعيا أمام الجسم لأني أتيت لأرسم “مش لأتفرج على وحدة عم تشلح”.. لست مهووسا جنسيا. في المقابل، كانت فتيات الصف يضحكن والشبان “عم يتطلعوا بالمقلوب”: “معقول هول أجزاء مرا”.. غير مصدقين. الحمد لله، كان صفي محترما.. بعد المرة الثانية، مشي الحال و”صاروا خوش بوش” مع العارضة.. عندما أتى الشاب ليعرض لنا، قالت الفتيات “يه.. يا الله. أنا ما فيي”.. يلاحظ المدرس ردود فعل تلاميذه ويعرف تماما من “يستحمل” ومن “ينهار” أمام الموقف.. فلا يركز كثيرا على رسوم المستهجنين.. على كل حال، هم الخاسرون”.

تقول رينيه ديك عن الطلاب الذين عرضت، على مر السنوات، أمامهم:

“الطلاب مهذبون جدا، “واعيين”، يريدون ان يشتغلوا.. وبعد جلستين، نتعارف ويبنى الاحترام ونتعاون خارج الصف. بعدين، ثم، أنا لا أشلح أمامهم من أول مرة: يحضرهم الأستاذ، يفهمهم ما معنى “النموذج” وأهميته ووظيفته في مجالهم، ويتم تدريبهم على جسم حجري، على شخوص. بيتعودوا وأنا بتعود”. الا ان الإعداد ومهما كان مدروسا، يبقى غير كاف ولا يلغي عنصر المفاجأة: سنوات من “التربية الشريفة” في مواجهة ساعات من التحضير للحرية”.

// 6 شباط مر من هنا //

في الجامعة اللبنانية – الفرع الاول يغيب “الموديل”، ويقول فادي عن هذا الغياب: “بيوم ما في ضو قمر سنة 1984، وفي 6 شباط تحديدا، ناموا التلاميذ واستيقظوا فلم يجدوا النموذج.. ممنوع.. النموذج في يومنا هذا في جامعتي يرتدي الملابس.. كان من الممكن ان يفيدني كثيرا وجودي في صف العري.. “بشوف” الجسم أمامي بكل ظلاله ووضعياته، أدرس العضل، العظام، النسب… دقة لا يؤمنها التمثال الحجري، فنحن بحاجة لجسد حقيقي يكون رمزا للجسم البشري، جسم يختصر الانسان، جسم قد يتحرك فأتابع حركته بتفاصيلها. “اللي بيشتغل موديل حي بيكون شرب الجسم”.. في الفرع الثاني يوجد موديل، وفي ال”ألبا”.. أعتقد أنهم يستحضرون موديلات من الجاليات الاجنبية”.

ممنوعة تجربة الجسد العاري عن طلاب اللبنانية  الفرع الاول، وخارج الاطار الفني الذي يشكل هدفا قائما بحد ذاته لم يعد باستطاعة من سيتعامل مع الجسد في عمله التعرف اليه وهو ليس هدفا جنسيا.. ففي المنع تكريس لضبابية الجسد الشهواني على حساب جمالية الجسد الفني.

وبعيدا من الجامعة اللبنانية، وفي واحدة من الجامعات التي تسمح بالعري داخلها، درس قاسم الهندسة الداخلية. قاسم لا يريد روية جسد أنثى خارج “الإطار الشرعي”، فوجد نفسه في مواجهة العري داخل الإطار الجامعي.. “خفت، نقزت، قرفت، أحسست أشياء غريبة، وهي ساكتة وقاعدة.. منها مستحية؟ قطيعة، أنا مستحي.. كرهت الصف وأخافني حالي، وتحولت بعدها مشهدا شبه يومي، تخيلتها صورة، حجر، اي شي “عشان يمشي حالي”.. ما بعرف إذا لازم حس هيك بس بعرف إني عن جد خفت.. قاعدة بلا شي من فوق.. أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. غريب.. أعتقد أني كرهتها كي أحب حالي.. أخافتني جرأتها.. يجب ان يمنعوا العري التام.. شو بيأثر اذا كانت لابسة تياب ضيقة؟”.

// تخلع وكأنها تلبس //

بعد سنوات دراسة طويلة في “المقاصد”، دخلت ميرنا الجامعة اللبنانية الاميركية.. دخلت فرع الفنون ولم يكن صف الرسم مقررا في منهاجها الا انها سعت للالتزام به.. هي تحب الرسم وتجهله تماما:

“كنا نسمع دائما عن وجود من يجلس ب”الظلط” في الجامعة.. تدور الفكرة في رأسك. شكلها غريب، فولارات وقبابيع. مما يزيد من غرابة المشهد وفرادته: “حدن قاعد بالظلط ببيروت”. تعلمت من دروس الرسم الأسس، ولكني تخرجت ولا يزال في رأسي ذكريات خاصة بصف العري. الصف نص دائرة، وتجلس هي في الوسط تماما وتعرض لنا ما يريدنا الأستاذ ان نرسمه.. هي تخلع ونحن نحضر الأقلام.. سكوت في الصف.. هي لا تشلح مثلما أنا أفعل عندما أعود كل يوم الى المنزل… بتشلح بهدوء وبتأني.. شوي شوي وتطوي أغراضها، الى ان تصل الى الملابس الداخلية أقول حينها: هلأ بدها تتضايق، وأنا بصير بدي أتضايق لأنها مضايقة.. وتمر اللحظة التي كنت »ملبكة« فيها، لحظة الـ”له”، بهدوء، وكأنها تشلح جاكيت.. لم أشعر ان ما تظهره لحما ولا هي شعرت بذلك.

بتعقّد، كنت أشعر أني أنا في واد وبقية الصف في واد آخر.. أريد ان أشعر معها ولكنها، تسارع دائما لتمحي مضايقتي بطبيعيتها.. أذكر تفصيلين ولا أنساهما أبدا: أول ما دخلت الصف، وقف الى جانبي شاب متدين، أذكر تماما صوته وهو يبلع ريقه.. تجمد.. “مستحي ومش عارف إذا لازم يستحي”، بقي إلى جانبي حتى آخر الصف، و”خلاني ضل” واعية الى أنه واع الى كونها امرأة عارية. أما الصورة الثانية فهي خاصة بأحد الصفوف الذي بعدما أخذت رينيه مكانها ووضعيتها فيه، وبعدما فرشت أغراضها وملابسها حواليها مثل كل مرة قالت للاستاذ: “فيي أتروق منقوشتي؟”.. ثم مدت يدها باتجاه حقيبتها، بحبشت فيها وأخرجت منقوشتها من دون اي تغير واضح في الشكل وانصرفت تأكلها وهرهر السمسم من دون ان يرف لها جفن.. لم تحرك سوى فمها.. لم تتحرك.. تركت الصف وأخذت بمراقبتها تأكل.. في عيونها حاجز، لا يمكنك ان تعرف بماذا تفكر.. هي التي ترسم الحدود.

كان همي أول صف ان أرسم وأنا لا أفقه في الرسم شيئا. ولا مرة فكرت “هيدي كيف بتشلح وبتقعد”، كنت دائما أفكر “هيدي الشالحة القاعدة بشو عم تفكر”.. كنت أفكر “كيف بدي ارسم الشالحة”.. الموديل.. بعدين حبيتها.

أول صف تميز بالهمهمة، فهي تشلح كما لو انها تلبس.. تقفل أذنيها عن أي شيء يمكن ان نحكيه او نفكر فيه.. كأنها تقول لنا: “هيدا جسمي، كل شي فيكن تتطلعوا فيه الا عيوني واللي عم فكر فيه”.. حسستني ان الجسم “ما شي”، والعري يحافظ على الخصوصية والسرية الفردية.. يبقى كل شيء في مكانه حتى ولو شلحت بالظلط.. لست أدري ان كانت كل النماذج “هيك” او رينيه فحسب.. هيدا شي شخصي تركته فيي”.

وانتهى الصف، ورحل كل الى منزله وصار الجسم رسماً على الورق… وصورة من صور الذاكرة.

أترك/ي تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s