منذ شهرٍ تقريباً، ومن موقعي في لبنان المعادي لإسرائيل (حتى قانونياً)، كتبتُ في موقع “مدى مصر” مقالاً غاضباً عنوانه “لا بريق تراجيدي على وجوه رافضي التطبيع“. وشرحت في النصّ أن سبب كتابته هو اختناقي إثر توالي أخبار التطبيع والسلام في ظل غياب أي أثرٍ فكريّ ونضاليّ للرأي العام المعارض للتطبيع خارج التفجّع على وسائل التواصل. والتفجّع حقٌّ لمن شعر/ت به أمام الخبر وصوره الصريحة، لكن، حتى التفجّع، تراه حلّ شديد التواضع ومكرّر التعابير بلا تجديد أو تأقلم مع استثنائية ما يجري.
السبب الأول خلف هذا الغياب واضحٌ كقرص الشمس في سماء آب: الشعوب التي كانت تتظاهر تاريخياً لأجل فلسطين، من اليمن وسوريا وليبيا إلى العراق والسودان ولبنان، تمّ منهجياً تدمير بلادها ومجتمعاتها وثوراتها، حتى ما عادت تقوى على السير في تظاهرةٍ بنت بلدها، وصار الكثيرون يشككون بجدوى التظاهر من أساسه.
ولكن، هذه الشعوب – بما في ذلك الشعب الفلسطيني في الداخل المحتلّ – لم تعتكف عن الرأي العام تماماً، لا بل أثبتت أنها تضمّ من هم جاهزون للنقاش ولحملات المقاطعة وحتى التظاهر، ولكن دفاعاً عن رسول الله مثلاً. وقد حدث ذلك في خضم التطبيع والسلام. في المقابل، تجلّى عداء إسرائيل في بلادنا خلال الشهر التطبيعي المنصرم على شكل خبرٍ فني احتوى ضجيجاً يدّعي السياسة، بين، من جهة، فنان “النمبر وان” الذي تصوّر مع أخر إسرائيلي في دولة عربية، ومن جهة أخرى، نقابة فناني مصر التي كانت قد منعت أغنية “سكّر محلّي” لأنها تتضمن كلمة “حشيش” ومنعت المطربة شيرين لأنها انتقدت نهر النيل، قبل أن تخصّص فاصلاً من بثّها لمكافحة التطبيع.

تدعونا هاتان المفارقتان (وسواهما الكثير) إلى قراءة الاعتكاف عن فلسطين، ليس فقط في فساد سلطات هذه المنطقة وإجرامها، وإنما أيضاً في اختلال آليات دعم فلسطين: لماذا ما عادت تحشد منذ سنين؟ وما الذي يجب فعله لتستعيد قدرتها على الحشد؟
في نظرة سريعة إلى تطوّر الخطاب المدافع عن فلسطين راهناً في منطقتنا، يتضح أنه، بدلاً من معالجة الإشكاليات المتأتية من الحياة وتطوّرها، تم تثبيت حججٍ تعاند الزمن وتصرّ على إبقاء القضية في لحظة 1948. الزمن مضى، وحتى الأسلحة تطوّرت، لكن الحجة صمدت خارج الزمن. فمثلاً، في منطقة على هذا القدر من الانقلاب على حالها، هناك من يقول إن الناس في دولهم عانوا من ديكتاتوريّاتٍ خطابُها داعمٌ لفلسطين وممارستُها قاتلة لشعبها. المهيمنون على الكلام باسم القضية همّشوا هذه الإشكالية، على اعتبار أن فلسطين تاريخية ولها الأولوية على علاقة الديكتاتور بشعبه. وهناك مَن نسبوا إلى “القيادات الحكيمة” لا الشعوب شرف إبقاء القضية حيّة. هذه مثلاً إشكاليةٌ قفز فوقها الناطقون باسم القضية الفلسطينية بيننا، وها هي تنفجر بنا الآن: إنّ همشتَ مصيبة شعب، سيبادلك التهميش.
جنب التهميش، يستلقي التخوين. فتعلو صيحاته لتمنع البحث في إشكالياتٍ بنت واقعنا، مثل مسألة دخول حملة الجنسية الأجنبية إلى الأرض المحتلة أو إمكانية أداء الفنانين العرب أمام جمهورٍ فلسطينيّ في الداخل دعماً لصموده إلخ..، على قاعدة أن التعامل مع إشكاليات الواقع هو تطبيعٌ مع إسرائيل. فلا يجوز أن نمدّ يدنا إلى الأرض المحتلة (الواقعة بأكملها تقريباً تحت الاحتلال الاستيطاني) إلا لنضرب طاولة نقاشٍ بعنف التخوين أو لنطال من الواقع مثلاً جديداً يدلّ على الجريمة ذاتها. كلّ تطوّرات الجريمة، كلّ الاستثنائيّ الذي تشهده فلسطين، ليس أكثر من دليلٍ على أننا دائماً على حقّ. قريباً، سيظهر الإسرائيليون أكثر في الدول العربية، ولن نخشى مصادفتهم في أوروبا وأميركا فحسب وإنما في عمقنا. وقد يتوظّفوا في مؤسسات نتوظّف فيها، ويشتغلوا على مكاتب تجاور مكاتب اللبنانيين، بينما الخطاب لا يزال غارقاً في ماضيه وماضينا. في منطقتنا اليوم، من يغريه هذا الحديث بالانضمام إلى قضيتنا أو أيّ قضية ممنوعة من الصرف في أرض الواقع؟
إلى ذلك، مَن يغريه الجهل بالانضمام إلى قضية؟ كلنا كنا نعرف أن التطبيع الخليجيّ شبه منجزٍ وسارٍ، ولو لم نتوقع سرعة إعلانه هكذا. ولذلك، لا يبدو مقنعاً هذا التفجّع عند الإشهار بعد طول تأقلمٍ قسريٍّ مع الفعل. ولا تستقيم الاستكانة إلى التفجّع كبديلٍ عن السعي لاستعادة المبادرة. “يوماً ما سوف.. التاريخ سيذكر أن..”. نحن نعلك هذه التعابير بينما الحاضر، قبل التاريخ، ما عاد يجد خبراً ينشره عنا، أسفل صور التطبيع والسلام.
لكلّ هذه الأسباب ولسواها، لم أتفرّغ في المقال السابق لشتم اسرائيل وتخاذل الأنظمة الرجعية مثلما يُفترض بأي تلميذٍ نجيب في مدرسة القضية المركزية أن يفعل. فضّلت أن أنتقد حالنا، نحن مريدي العدالة لفلسطين، الواقعين تحت سلطة – وأحياناً إغراء – “القيادات الوطنية” التي خنقت بلادها وفلسطين. وقد عاد عليّ المقال، مثلما توقّعت ووددت، بنقاشاتٍ كثيرة، بعضها حادّ، خضته مع أصدقاء ورفاق. وهناك من لجأ إلى التخوين وبالتالي إلغاء الفكرة من النقاش وصاحبتها من السياق. وهناك مَن غضبوا وثاروا دفاعاً عن “الحق بالتفجّع”، وهو المتاح للجميع والسائد في كافة مساحات منطقتنا، لن يمسّه مقال.
أن تسعي لأن تكوني ابنة واقعك، تطلبين منه العدالة لفلسطين، يعني أن تستفزي السلطات، وهذا فعل مقاومةٍ محمود، ولكن أيضاً أن تستفزي غضب المحافظين/ات على خطى السلف الصالح. إن قراءة يوم فلسطين يستلزم منا إلقاء باقة الهتاف جانباً والتسلّح بـ1- أدوات البحث لمعرفة كافة أحوال فلسطين، 2- الذهن المتقد لتخيّل المطلب المؤثر في حياة ضحايا الاحتلال اليوم، و3- المبادرة نحو تنظيماتٍ حديثةٍ تقوى على رفع صوتٍ يستقطب ولا يطرد المؤيدين.
تلك مداخلٌ عامّة تغري الناس بالوقوف من أجل فلسطين بدلاً من الانصراف عنها سأماً من فوقية مدّعي “الثبات”. وهي تطبيقٌ حرفيّ لأبسط قواعد المنطق: ننطلق مما جرى، لنحدّد كيف نجري.
ماذا جرى؟
في ردّ الفعل شبه الوحيد على التطبيع والسلام، تصاعدت اتهامات الخيانة والبيع والارتهان والابتزاز، وتلاها التفجّع على فلسطين التي “ستستمر” ما استمر الزعتر والزيتون. وأتت ردود الفعل هذه ضمن الدوائر المقفلة إذا كان أصحاب التعليق يشتغلون في الخليج، أو على وسائل التواصل في حال انعدام المصالح في الخليج.
وإذ بلغ الفعل مستوى غير مسبوق (إعلان التطبيع والسلام)، بلغ رد الفعل أدناه. جمدت الجماعة على نفسها كانسانٍ يسعى لأن يتماسك وهو ينهار، أغمضت عينيها وأقفلت أذنيها، وراحت تردّد إدانات الخيانة ووعود العاصفة بصوت عالٍ كما التعاويذ.
اللغة التي اعتمدها الكثيرون من مريدي العدالة لفلسطين سنة 2020، هي اللغة ذاتها التي ابتدأت سنة 1948 ثم ترعرعت وتنقّحت في الستينيات والسبعينيات. أحد أبرز الفوارق بين السنوات هو أن اللغة اليوم، سنة 2020، لا تترافق مع جيوشٍ عربية تسير في حرب التحرير مثل حالها سنة 1948، وإنما يساهم معظمها في حماية “حدود” إسرائيل. كما أننا لا نرى اليوم، سنة 2020، كفاحاً مسلّحاً يجمع الفصائل ضد المحتلّ مثل حاله أواخر الستينيات وخلال السبعينيات، وإنما انقساماً داخلياً يضع ما تبقى من الفصائل في مواجهة بعضها. كلّ المبادرات المقاوِمة الأخيرة التي شهدها الداخل المحتلّ لم تأتِ على أيدي الفصائل، وإنما الشباب الباقون خارجها وتحت الاحتلال وبالكاد نعرف عنهم وعن حيواتهم شيئاً. لمّا يختلف الواقع إلى هذه الدرجة، كيف يستقيم جمود الخطاب؟
من العبارات المستخدمة في التفجّع والتحرير، يتّضح أن الخطاب الجامد يستقيم بفضل الوعود. وعود العاصفة التي كتبها بأبهى حلّة محمود درويش، وهو استمر ولم يستقر تحت فيئها، وإنما راقب الدنيا تتغيّر، وأخبر الوعود عن التتمات، ورأى الواقع بعينٍ تميّز المُشتهى عن الحال. ديوانٌ تلو الأخر وصولاً إلى أخيره، تعامل درويش مع الواقع بشجاعة ولم يهرب منه ليختبئ في الوعود. لم يرفع شعاراً أو رائحة زعتر أعلى من واقع الأرض، لا بل لام نفسه لمّا فعل: “”أسأتُ إليك يا شعبي” أسأتُ كما أساء الحبُّ لي / وأصبتُ طفلاً بالأغاني حين قدّستُ المعاني وحدها / وتركتُ سكانَ القصيدةِ في مخيّمهم يعدّونَ الهواءَ على الأصابع / كم من أخٍ لك لم تلدْهُ الأم يولدُ من شظاياك الصغيرة؟” (“من فضة الموت الذي لا موت فيه” – 1986).
تأقلم درويش سريعاً مع واقع شعبه كي لا تسقط قصيدته خارجهم، فكتب منذ 1986: “صدّقتُ أُغنيتي وكذّبتُ الخريفَ وليتني كذّبتُ أُغنيتي وصدّقتُ الخريفْ”. وهو جهدٌ كبير بذله الشاعر ليُبقي قضية فلسطين في حاضر الزمن. وتكفي قصيدة “طباق” وحدها لتظهر رغبته، لا بل نهمه للتعامل مع أشد الإشكاليات إشكاليةً، كقوله: “وقفتُ على الباب كالمتسوِّل / هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق سريري أنا بزيارة نفسي لخمس دقائق؟ هل أنحني باحترامٍ لسُكَّان حُلْمي الطفوليّ؟ هل يسألون: مَن الزائرُ الأجنبيُّ الفضوليُّ؟ هل أستطيع الكلام عن السلم والحرب بين الضحايا وبين ضحايا الضحايا، بلا كلماتٍ اضافيةٍ، وبلا جملةٍ اعتراضيِّةٍ؟ هل يقولون لي: لا مكان لحلمين في مَخْدَعٍ واحدٍ؟ لا أنا، أو هُوَ”.
وإذ استقبله كثيرون بأذهانٍ عطشى، لم يتردّد محافظون كثرٌ، أكانوا من المحافظين على سلطاتهم أو على خطى “أبوات” الثورة، في استقبال قصائد ومواقف كثيرة لدرويش بتهم الخيانة والتطبيع. ماذا فعلنا بهذه التهم؟ لا شيء. في المقابل، بقي لنا من درويش تجربة يُبنى عليها لشاعرٍ رأى وعود فلسطين واستنتج: “كي أوسِّع هذا المدى، كان لا بدّ لي من سنونوة ثانية، وخروج على القافية، وانتباه إلى سعة الهاوية” (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي – 2009).
إن ردّ الفعل الوحيد على موجة التطبيع والسلام الذي حمل لغةً ومفاهيم واقعية والتزم هذا المنحى النضالي، أتى من السودان، ومن رافعة ثورتها تحديداً: المهنيّون السودانيّون. فقد أصدر التجمّع بياناً وضع عداء السودان لإسرائيل في سياق راهنٍ، ساق حججاً ابنة عالم اليوم، حدّد خللاً في آلية اتخاذ قرار السلام، وحدد آليةً للعودة عن الاتفاق. قد لا تتحقق مطالبه واقعياً، لكنها حدّدت ساحةً جديدة للمعركة، تقع في أرض اليوم، بعيداً عن أنظمة الفساد والإجرام، وتلهم ناس اليوم بالعدالة الكاملة. هذه المبادرة أتت من ناسٍ يشتغلون على أرض الواقع ونفّذوا ثورةً قام لها الشرق حباً واحتراماً. منهم وحدهم وبلا كثير الادعاء، أتى خطابٌ صحّي. ليس في الأمر إعجازٌ إذاً.
نحن اليوم نقف عند باب التغيير. من سيدقه، سيدخل إلى قضية فلسطين ويمشي معها يداً بيد في الراهن الوعر. ومن سيعاديه، سيُنسى حيث يقف. إن الهزيمة، هذه المرة، ليست عاصفةً تعدنا نهايتها بوعود، وإنما تفترض عصراً جديداً خالياً من “العواصف”. إن الرهان على الأنظمة وشعارات الستينيات والسبعينيات ما عاد يستقيم في منطقتنا اليوم. لكن قضايا الحرية والعدالة والمحاسبة تستقيم، لها ناسها الذين ملأوا الشوارع واخترق الرصاص صدورهم. وهي جوهر القضية الفلسطينية.
ماذا نفعل، إذاً؟
إدوار سعيد، في تفكيكه للمقاربة التي اعتمدها المستشرقون في قراءة الشرق، رصد منحى هاماً يسجن الشرق في نظرتهم إليه أولاً، لكن أساساً وأيضاً يسجنونه في حالة جمادٍ لازمنية تلغي إنسانية الشرقيين: مثلما يروننا نكون، ومثلما كنا سنبقى. والخطاب المحافظ المرعوب من كلّ تجديد صار يشابه هذا الملمح الاستشراقي، إذ يَفترض بفلسطين ثباتاً لازمنياً قاتلاً. شرطُ الدفاع عن الحياة هو الحياة، وشرط الدفاع عن فلسطين هو قراءة يومها.
يجب أن تجد فلسطين مدخلاً إلى خطابنا المنفصل عن واقعها، ولعلها صارت مربكةً به. إذ، هل سنسمع ما لدى فلسطين لقوله لنا، مثلاً، عن العملة التي تستخدمها الضفة، المشاريع التي تسكنها، والحياة الاجتماعية فيها، عن العمل في اسرائيل الذي تحتاجه غزّة لا بل وتطالب به، عن “يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل” في حياة امرأة فلسطينية من يافا تعيش في حيفا وتعمل في مصرف إسرائيلي، عن تسليع قصائد درويش في معرض بيع خط تلفون إسرائيلي في الضفة، عن شباب القدس وعلاقتهم بالأقصى ومعنى المقاومة في حياتهم، … إلى فلسطين، هناك إسرائيل: كيف تم صهر يهود العراق واليمن والمغرب ومصر وسواها في بوتقة هويتها البيضاء؟ هل الهاغانا كانت فعلاً عصابة؟ ما كانت علاقة المؤسسين بروسيا ويهود روسيا وكيف صارت اليوم؟ أثيوبيا ويهود أثيوبيا؟ ثم، ماذا يجري في يسارها؟ نكره المستوطنين، حسناً، لكن من هم، مما يعيشون، بماذا يعتقدون، كيف استقروا في الضفة والقدس، وأي علاقات بنوا مع محيطهم؟ هل يمكن تفكيك استقرارهم؟ كيف يتم التصدي لهم، فعلياً ويومياً؟ ثم، هل هناك زيجات مختلطة بين اليهود والعرب في فلسطين؟ ما موقف الصهاينة منها وهل يعملون لمنعها؟ ماذا يدرس الإسرائيليون في المدرسة؟ وكيف نتعامل مع مسائل تخلق بديهياً بعد 70 سنة احتلال، مثل أن المحتلّ أنجب جيلاً رابعاً على هذه الأرض، بحيث صار بإمكان الممثلة الإسرائيلية غال غادوت أن تتصور تحت جذع شجرة زيتون وتقول: أرض أجدادي!
لدينا أسئلة ومسائل شائكة بعدد شعر الرأس، بلا مساحةٍ تتقبّل طرحها. لمّا يشعر المحافظون بأن الدنيا تبتعد عن فلسطين، فذلك يعود أيضاً إلى انعدام الإجابات والنقاشات حول أسئلة واقعها.
هناك ألف موضوع ينتظرنا لنقرأه ونفكّر فيه. فالاحتلال الاستيطاني حلّ فوق فلسطين، كل فلسطين. وتهم التطبيع ستعيق وصولنا إلى فلسطين، والأمثلة على ذلك بعدد شعر الرأس، مثل مرّةٍ تم تخوين مخرجة واتهامها بالتطبيع لأنها صورت شباباً في القدس أو لما تم تخوين الفرقة الفلسطينية “دم” لأنها غنّت ضد جرائم الشرف في فلسطين، أو..
بينما الأنظمة تمضي في تطبيعها، لم يسمح المحافظون لنا بعد بخوض نقاشٍ لتحديد الفارق بين التطبيع مع العدو ودعم صمود الشعب المعزول تحت الاحتلال. ولأننا نعرف أن بيننا من خوّنوا درويش، نعرف أن بيننا من لن يتردد في إلغاء فلسطين لو حكت بلغة يومها. ولذلك، لا مفر من المواجهة الصلبة مع السلطات المحافظة التي فينا وحولنا وعلينا، لنتمكن من بلوغ فلسطين.
يجب ألا نخضع لـ”تابو” في حديثنا عن فلسطين. يجب أن نحرّرها في حديثنا. يجب أن نسمح لواقعها بالكلام. كلامٌ حرٌّ، وليس الكلام المطلوب منها كأيقونة جامدة على جدارٍ أصفر.
أحبُّ التوب المطرّز والمقلوبة وأغاني الثورة، لكن إلغاء مساحات وجود فلسطين الأخرى والجدليّة لا يضرّ بإسرائيل، وإنما بفلسطين. مساحة الفلكلور والهوية سائدةٌ منذ عقود، لا تحتاج دفاعاً عن مساحاتها في منطقتنا، ليس في ذلك تجديدٌ وإنما هو فعل محافظة. وللمنحى المحافظ كامل الحقّ بالوجود طبعاً، طالما لا يخوّن سواه أو يعيقه خطابياً عبر محاصرته في مرحلة: “هل يحق لي أن أخوض هذا النقاش؟”.
هنا، في منطقتنا، نحن لا نتعارك حول رائحة الزعتر وأصل الحمص. كما أن الأرض والمخيم يدبكان يومياً وبالتوب لأي مناسبة يفرح لها قلب الناس. وإذ ندعم دائماً كافة المعارك الدائرة أوروبياً حول استملاك الاحتلال لثقافة ضحيته ونستوحي من معارك المقاطعة ما يمكن أن يفيد سياقنا، ترانا هنا نعاني مشاكل الانسان الفجّة، من القتل إلى نوعية الحياة مروراً باعتقالها. نعرف أننا موجودون، والفلسطينيون يعرفون أنهم موجودون، ولا جميل لنا في تكرار ذلك على مسامعهم. لا يمكن الاستمرار على المنوال ذاته وتوقّع أن إسرائيل ستحمل نفسها وترتمي في البحر تحت وطأة تصريحاتنا القاسية. نحن نقف عند لحظةٍ مفصلية ونحتاج أن ننفض عنا أساليبنا المزمنة تماماً كما فعلت الانتفاضة الأولى في الداخل. نحن بحاجةٍ إلى انتفاضة في فكرنا تعيد وضعنا على خريطة الأرض المحتلة.
لنكون مؤثرين في واقع فلسطين، لندعم أصحاب القضية فعلياً، يجب أن نسمع كثيراً لأهل الأرض في أحوالها الأربع (الضفّة – غزّة – القدس – 48). يجب أن نسكت قليلاً ونعيد اللغة إليهم، بلا توقّعات وردية ولا قوامة ولا مبالغات. نحن لا نعرف، ونحكي فوق صوتهم، وهم مختلفون جداً على سلّم الرجعية والتقدمية، ولكنهم يبتسمون لنا ويهزّون الرأس تقديراً للدعم المشروط في زمن الهزيمة الكبرى، بعدما أفل أثر المطالبة واللوم.
إن أبسط ما يمكننا أن نفعله اليوم هو أن نتعلّم عن فلسطين وأن نتعلّم عن إسرائيل. أن نسأل الأسئلة الصعبة، ونستمع إلى الإجابات الأقسى. أن نصوغ المطلب المناسب، ونحشد التأييد له. ألفباء النضال، يجب أن نستعيدها من “أبوات” السلف الصالح بعد انقضاء المدة وانقلاب الواقع. وللمنحى التجديدي في دعم القضية الفلسطينية تاريخٌ ووجوه، فيه فلسطينيون ولبنانيون ومن جنسيات أخرى. لن نبدأ من الصفر.
نحن لا نمتلك سوى مساحات النقاش هذه. لسنا سلطة مؤثرة، لا كمحافظين ولا كمجددين في المقاومة، فالسلطات تدير كل شيءٍ هنا بلا إرادتنا. من موقعنا المخنوق هذا، نحتاج أن نلتقط ساعد فلسطين، ونرتبط به من جديد. الدم يحتاج أن يتجدّد، وفلسطين تحتاج تجدده. من يقدر على نقاش الكيفية ويرغب به، فليبادر. ومن لا يمتلك المقدرة أو الرغبة، فليتمنع على الأقل عن إعاقة هذا السعي وتأخيره.
فلسطين تستحق أفضل من التفجّع.. على الأقل، ممن لديهم/ن أكثر لها.
- حول آليات مناهضة التطبيع في منطقتنا: وجهة النظر ليست “خيانة” – مدى مصر 2018