إثر تظاهرات فرنسا وفي كلّ مناسبة، يُلام الشعب اللبنانيّ على عدم انتفاضه ضد فساد العصابة الحاكمة، خاصة وهي تبهرنا راهناً بسماتٍ ديكتاتوريةٍ مبتذلة تتجلّى مثلاً عبر منع القول الإلكترونيّ، تضخّم مساحات أجهزة الأمن، أو التجاهل التام لأحكام القضاء في إدارة المناقصات التي تقتات العصابة منها.
ومسألة لوم الشعب اللبنانيّ على تبعيّته لزعمائه وثقل حركته الاعتراضية هي مسألة متكرّرة. تظهر في كلّ حين، إما لتطهير الذات في فعلٍ شديد الفرديّة لا عمق سياسيّ له أو للتعبير عن غضبٍ تجاه الشركاء في المواطَنة الذين استسلموا لانتفاعيةٍ طائفية أو لخوفٍ من الأخر ومن المجهول بسذاجةٍ وتواطؤ.
وهذه المسألة ليست بريئة دائماً، وإن كانت أحياناً تعبر عن غضبٍ محقّ مثل ذاك الذي بقي في فمّ عددٍ واسع من ناشطي/ات الحراك الشعبيّ سنة 2015، لما رأوا “الشعب” (الكنبة) يرضى بتهم الفوضى والداعشية التي رمتها السلطة في وجوههم. هذا طعمٌ مرّ يألفه المتظاهرون في المنطقة والعالم بشكل عام، لما “الكنبة” تتوجّس منهم وتنصرف عنهم ولو بعد انبهارٍ مرحليّ. تنصرف، لأجل إستقرار الأمور وإتاحة المجال للحاكم كي يحكم.
ولكن، إلى هذا الغضب/العتب المحقّ، تضاف لحظاتٌ غير حميدة في مسيرة نقد الناس لخمولهم تجاه أداء السلطة. إذ يتفاقم هذا اللوم ليصبح: “كما تكونون يولّى عليكم”، ثم “مش الحق عليهم، الحق ع هالشعب اللي..”.
هنا، أذكر خطاباً أزهر في تسعينيات القرن الماضي ليطوي صفحة الحرب الأهلية بأخفّ طريقة ممكنة، فيقول بأننا، خلالها، كنا كلنا جلّادين وكلنا ضحايا. في الواقع، لم نكن كلنا الجلّادين وكان سوادُنا الأعظم ضحايا. تمّ تحميلنا في الخطاب مسؤولية الحساسية الحزبية أو الطائفية. تمّ تحميلنا مسؤولية التفاعل بالإحساس والرأي مع واقع هزّ كامل كياننا الفردي والجماعي بالهدّ والقتل والخوف. وقيست هذه المسؤولية بالدم الذي سفك، فصرنا “كلنا” مسؤولين عنه، وما عاد القاتل يشعر بالوحدة في لبنان السلم الأهلي.
تحميل “الشعب اللي ما بيتحرك” مسؤولية إنهيار الحال في لبنان اليوم قد يأتي في معرض الكفر بكل شيء وعزل الذات عن هذا الواقع.. لكن، لمّا يروج كخطابٍ متكرّر ومنتشر، تراه يصبح رأياً عاماً يبرّئ السلطة ومنتفعيها من مسؤولية جرائمهم، ولو معنوياً، ويربك الفوارق بين الشعب والسلطة بما فيه خير السلطة، ويربط التغيير بمحطة سريالية هي تغيير “الشعب”.
لا يأتي هذا المنحى في التفكير من عدم اللحظة، وإنما من عمقٍ ثقافيّ تاريخيّ هنا في المنطقة، يجب أن نراجعه ونعيد النظر فيه، يحقّر الشعب ويبرئ الحاكم، بدءاً من “كما تكونون..” إلى “يا فرعون مين فرعنك؟ اتفرعنت وما حدا ردّني”.
كذلك، تأتي خيبة الأمل بـ”الشعب” من المبالغة في توصيف دور “الشعب” أساساً. هناك وهمٌ، قد يعود إلى الثورة الفرنسية ومفاهيمها أو ربما نجده في دفاتر يساريّة ملهمة، يفيد بأن “السلطة للشعب” و”الشعب هو ملح الأرض” و”الشعب صاحب القول”. وقد رأينا خلال العقد الماضي “الشعب” يُسحل، كما رأينا “الشعب” فريسةً سهلة لأي تلاعبٍ سياسي به. شعوبٌ فاقدة للمعلومات تتخبط بين الخطابات، وشعوب فاقدة للخطابات تغرق تحت فيض المعلومات.. ما يحيل “الشعب البطل” إلى وهمٍ كاد أن يكون ملهماً لولا أن الواقع لا يستند إليه.
أيّ سبلٍ للتغيير؟
سِحر النزول إلى الشارع وانتزاع التغيير عبر الثورة (الكاملة أو الجزئية، لا يهم) فقد بريقه في منطقتنا تحت أكوام البارود والحديد والدماء. كما نمّت الحكومات حصانات ضده، وانتهى الناس إلى الخشية والتوتر من ظرفٍ أمنيّ أو مؤامرة قبل التفكير بالمكاسب المشتركة. الشارع كان مدخلاً أساسياً للمطالبة بالتغيير، وقد فقدناه.. هذا على افتراض أن قرار النزول إلى الشارع كان ليملأ الشارع شباباً لم يحبطوا بعد وحالمين لم يصطدموا بحائط “لو غراي”.
طريق أخرى لبلوغ الفعل العام تجسّدها الإنتخابات. وقد شهدناها مؤخراً، وشهدنا الحوت الحاكم ينتفض لها: مطالب التغيير حوصرَت بالقوة، بالاقتصاد وبالوعود. هذا طبعاً على افتراض أن التغيير كان جاهزاً وبيّناً ومعرّف الوجوه للناس. في الواقع، كان طرح التغيير مجهولاً وهامشياً وبعيداً عن مراكز القوة لدرجة أن الناس صوتوا لا ضدّه وإنما في غير صالحه، ببساطة.
ماذا يبقى؟ عصيان وعنف وما شابه؟ هذا – مثلما عرفناه بالعين المجردة – هو واحد من أدوات ميليشيات السلطة في لجم الناس (المعارك العابرة)، إذ تعلن حالاً طارئة خطرة تستدعي “تدخّل الدولة”، وكأن هذه الدولة هي كيانٌ معنويّ خارج عن النظام الذي يحرّكه. في النتيجة، يعود شغل “الأجهزة” ليسود فوق أيّ شغل في البلد “لحفظ السلم الأهلي”.
وهناك الرأي. لدينا صحافة، لكنها محاصرة. صحافة كانت وانهارت وصحافة تتشكّل وتصارع. لم تكن الصحافة التقليدية الراحلة عظيمة ولا أتيح لها أن تكون مستقلة، وقد رحلت بسرعةٍ لافتة آخذةً معها المساحات التي أتاحتها. أما المواقع والمبادرات الجديدة فلا تزال تتشكّل وتبني، تقترح مساحاتٍ وعادات قراءةٍ واشتباك جديدة.. لكنها لم تتشكّل في حيّزٍ عامٍ متينٍ بعد. ففي الحيّز العام، تنمو القضايا ومعها الأفكار، لا اللوم.
ما هي سبل التغيير المتاحة لنا، إذاً؟
نحن لسنا حالاً إستثنائية في العجز، فتلك أحوال معظم دول المحيط والمنطقة. لكننا، في لبنان، كنا نمتلك ديكتاتوريات صغيرة، ديوك صغيرة على رقع صغيرة، قادرة على إعلانها حرباً متى شاءت، ونعرف بالتجربة الملموسة أن هذه الديوك لا تتهيّب أمام قرار الحرب. بالنتيجة، “يشاء” كثيرون من الشعب التماهي معها، خاصةً وأن التماهي مع الكلّ-الشعبيّ دونه عوائق متراكمة ومتقاطعة، من الطائفة إلى الطبقة، مروراً بالمنطقة والتاريخ الحربي والرأي السياسيّ.
كان الهواء يمرّ بيننا فلا نتكدس شعباً تحت سلطةٍ كحال دول الجوار. وكانت هذه الدول تعيب علينا كثرتنا، وكنا لا نشتهي القالب الجامد الذي يصبّون شعوبهم فيه. وقد تفاقمت هذه الحال بالنظام وبالشعب حتى بلغنا الدرك الذي نقبع فيها ونخشى تدهوره، لا بل ونلوم أنفسنا على أننا لم نُصبّ في قالب ضاغطٍ يوماً.
يقول السؤال: “كيف تسكتون؟” و”لماذا لا تنتفضون؟”. وإذ لدينا مسؤولية في إنتاج هذا الواقع، من المجدي أخذ السؤال إلى أبعد بخطوةٍ عن لحظته الأولى. فعلياً، كيف نحارب هكذا النظام؟ بأي سلاح، وكلّ الأسلحة بما في ذلك النارية ليست بمتناولنا. وقد صار ذلك جلياً لنا.
النظام لا يمثّلنا لأننا اخترناه وإنما لأنه يمتلك:
- كامل الاقتصاد، من الميزانية إلى المصارف إلى قطاعات الإستثمار. ونحن لنا القرض الشخصيّ والدين العام.
- كامل السياسة، من المعارضة إلى الموالاة، حتى فكرة النقابات والأحزاب السياسية استعمرها النظام. ونحن لنا مجتمعٌ مدنيّ يُوصف حيناً كطائرٍ نادر يجب وضعه في محميّة والتفرّج عليه بفخر، وأحياناً كمنجمٍ للمؤامرات ضد الأمن أو الدين.
- كامل الأجهزة الأمنيّة، ولكل جهازٍ سراديب معتمة فيها الظلم والتعذيب والزمن الخانق. وفوق كلّ جهازٍ زعيم، يحرص على رضاه. ونحن لنا كامل السلطات الأمنية والعسكرية، موجهة نحونا وتراقبنا وتعاقبنا، منذ دخول البلد وحتى الكتابة عنه، من النكتة إلى “التحريض” ضد مجرور عاشور..
يمتلكون السياسة والمال والعسكر، وأكثر.
إنهم يمتلكون كل ما يحيط بنا، فلا غرابة في امتلاكهم أجزاء واسعة منا.
ما العمل؟
النظام يتشكّل من مجموعة من الرجال لم يتردّدوا في هدّ الدولة، تدمير بيوت الناس وشوارعهم، قتل الناس، بالقنص وبالعين المجردة، بالاستهداف وبالقصف العشوائي، حرق المؤسسات العامة وأصولها، ثم نهبها في السلم وعلى توالي أجيالهم وشركائهم، سلب البلد وناسه ممتلكاتهم الصغيرة كما ضمانات الغد، بلا إحساس بالذنب، المسؤولية أو الندم.. “نفخر” و”جاهزون” و”نحن الذين”. ولمَ لا؟ فكلنا جلّادون وكلنا ضحايا. “مش الحق عليهم، الحق على الشعب اللي..”. هؤلاء الرجال بلغوا من امتلاك حياتنا مرتبة أتاحت لهم ألا يكترثوا لأزمةٍ اقتصادية أو لضياع مرفقٍ عام أو لتلوّث بحر أو لتشوّه شعب وبلد. هؤلاء ما عادوا يكترثون لمقالٍ أو لتظاهرة. هؤلاء، لسنا في دائرة اهتماماتهم. لسنا مصالحهم.
ف، فعلاً، ما العمل؟
الأزمة تحدّ مواردنا، حركتنا وخيالنا. سمعتُ من أشخاصٍ كبار السنّ تظاهروا أطفالاً ضد استعمار الفرنسيين، يقولون بالدمع والحرقة خلال الأشهر الماضية: “ليت أقدامنا تكسّرت والفرنسيين بقوا”. ورأيت من عُرفوا بالهتاف بالروح والدم، يجلسون بعيداً عن الأعين إلى طاولة الهزيمة الشخصية ويحصون الخسائر، بالروح وبالدم أيضاً. ورأيت من يرفعون الصوت القمعي باسم “بوط العسكر” يقلبون العملة ذاتها مساءً ليتضح حجم اليأس: يناجون ديكتاتوراً عادلاً يخرج من سراديب الزمن لينقلب على كامل التركيبة والنظام بقدرة قادر، ويعيد بناء ما لم يُحمَ يوماً، الدولة. ورأيت من يصيغون أجود المطالب بأدق العبارات، ينزلون وحدهم إلى شارعٍ ما عاد يتأمل بشعار، مهما سما في الطهارة الثورية أو استقر على أرض الواقع.
“الشعب” لا يبدو خاملاً وإنما يبدو وكأنه لا يثق بحلولٍ ليتجه نحوها. لا يقوى أساساً على تخيّل حلولٍ ليتجه نحوها. هذه حال مختلف أطياف الشعب ونخبه المتشتتة والفاقدة للدور.
فهل من حلول لم ينتبه لها “الشعب” لينبهه لائموه إليها؟
نحن، وشعوب كثيرة حولنا في هذه المنطقة، نبدو عالقين في لحظةٍ ما. لا قول لنا ولو أننا صرنا نمتلك وسائل القول الفردي اليومي المتواصل (تويتر، فايسبوك..). لا فعل لنا، ولو نزلنا إلى الشارع مرة أخرى. المستجد علينا هنا هو تهلهل الدولة واختناق الحيّز العام.
نحن اليوم في حالة انتظار، والانتظار هو حالٌ تتسم بشدّة القلق.
بلا رئاسة، ننتظر.
بلا برلمان، ننتظر.
بلا حكومة، ننتظر.
ننتظر، ونكابر بأننا نبرع بلا مؤسسات. ننتظر، ونكابر بأننا نهوى الانتظار.
ماذا بوسع “الشعب” أن يفعل في واقعٍ كهذا؟
نحن في مأزق. لا تتوفر لنا حلول عبقرية ولا خطط عمل متبلورة تنتظر إرادة “الشعب” لتفعل. فندور في دائرة لوم الذات ولوم الأخر على أداء الحكم.
نحن والمنطقة بأسرها في مأزق. الاقتصاد والقضاء والسياسة والنقابة والصحافة والأدب والفن والبحر في مأزق. وهي كلها شؤون لا تنتمي إلى مساحة العاطفة والرأي والتقييم فحسب. هي مساحاتٌ استُعمرت فعلياً وحسياً ومادياً وتكتيكياً من قبل أنظمة فاسدة وقمعية.
في كلّ منا قهرٌ نتيجة هذا الواقع وتوقٌ للخروج منه بقدرة قادر. لكن، لن تحلّ قدرة القادر اليوم، ولم تحلّ في العام 1975 ولا حلّت في العام 1990. نحتاج إلى مساحة عامّة وفعلية، لا تأتي من وهم ولا تناجي العدم، لتفريغ هذا القهر وذاك التوق وترتيبهما وترتيبنا بينهما. نحتاج أن نبدأ بالتفكير بمواقعنا وطاقاتنا وقدرتنا التأثيرية. هل نملك قدرة تأثيرية اليوم؟ هل هناك سبيل لامتلاكها؟ وكيف؟
نحتاج إلى إعادة بناء نفسنا بعد كل هذه العواصف والمتغيّرات وعلى ضوئها. من الجليّ أننا ما عدنا نجدي. نحتاج إلى الخروج من دائرة القهر-التوق-اللوم. نحتاج إلى استعادة الجدوى.